سورة فصلت - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}
واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات الله، ثم بيّن شرف آيات الله، وعلو درجة كتاب الله رجع إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على أذى قومه وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من أنهم {قَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} إلى قوله: {فاعمل إِنَّنَا عاملون} [فصلت: 5] فقال: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} وفيه وجهان:
الأول: وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزّلة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} للمحقين {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى الثاني: أن يكون المراد ما قال الله لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة، هو ذكر الأجوبة عن قولهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ} فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة، وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه، وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل، ثم إنه تعالى ذكر جواباً آخر عن قولهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذانِنَا وَقْرٌ} فقال: {وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: أأعجمي بهمزتين على الاستفهام، والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله، كقوله: {أأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ونحوها على الاستفهام، وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة، وأما القراءة بهمزتين: فالهمزة الأولى همزة إنكار، والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، وأما القراءة بغير همزة الاستفهام، فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي.
المسألة الثانية: نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت، قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية، وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن، لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتاباً منتظماً، فضلاً عن ادعاء كونه معجزاً؟ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد، على ما حكى الله تعالى عنهم من قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} وهذا الكلام أيضاً متعلق به، وجواب له، والتقدير: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي من هذا الكلام {وفي آذاننا وقر} منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه، أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب، وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها، فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام، بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جداً.
ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِي ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}.
واعلم أن هذا متعلق بقولهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} إلى آخر الآية، كأنه تعالى يقول: إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة، فبقي أن يقال إن كل من آتاه الله طبعاً مائلاً إلى الحق، وقلباً مائلاً إلى الصدق، وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين، فإن هذا القرآن يكون في حقه هدىً شفاء.
أما كونه هدىً فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، فذلك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل، وأما من كان غارقاً في بحر الخذلان، وتائهاً في مفاوز الحرمان، ومشغوفاً بمتابعة الشيطان، كان هذا القرآن في آذانه وقراً، كما قال: {وفي آذاننا وقر} [فصلت: 5] وكان القرآن عليهم عمى كما قال: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن، وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد، فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه، وقرأ الجمهور {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} على المصدر، وقرأ ابن عباس عم على النعت، قال أبو عبيد والأول هو الوجه، كقوله: {هُدًى وَشِفَاء} وكذلك {عَمًى} وهو مصدر مثلها، ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في {عَمًى} أجود فيكون نعتاً مثلهما، وقوله تعالى: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء، وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع، وإن سمع لم يفهم، فكذا حال هؤلاء.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} وأقول أيضاً إن هذا متعلق بما قبله، كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه، فقبله بعضهم ورده الآخرون، فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده الآخرون، وهم الذين يقولون {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، كما قال: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب، فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}.
ثم قال: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} يعني خفف على نفسك إعراضهم، فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، والله سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ}.


{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في الآية المتقدمة بقوله: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة، وكأن سائلاً قال ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما: قوله: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا} والثاني: قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} قال أبو عبيدة أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة، قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (من ثمرات) بالألف على الجمع والباقون (من ثمرة) بغير ألف على الواحد.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث} [القمان: 34] إلى آخر لآية، فإن قيل أليس أن المنجمين قد يتعرفون من طالع سنة العالم أحوالاً كثيرة من أحوال العالم، وكذلك قد يتعرفون من طوالع الناس أشياء من أحوالهم، وهاهنا شيء آخر يسمى علم الرمل وهو كثير الإصابة وأيضاً علم التعبير بالاتفاق قد يدل على أحوال المغيبات، فكيف الجمع بين هذه العلوم المشاهدة وبين هذه الآية؟ قلنا إن أصحاب هذه العلوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما الغاية القصوى ادعاء ظن ضعيف والمذكور في هذه الآية أن علمها ليس إلا عند الله والعلم هو الجزم واليقين وبهذ لطريق زالت المنافاة والمعاندة والله أعلم، ثم إنه تعالى لما ذكر القيامة أردفه بشيء من أحوال يوم القيامة، وهذا الذي ذكره هاهنا شديد التعلق أيضاً بما وقع الابتداء به في أول السورة، وذلك لأن أول السورة يدل على أن شدة نفورهم عن استماع القرآن إنما حصلت من أجل أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى البراءة عن الأصنام والأوثان بدليل أنه قال في أول السورة {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} [فصلت: 6] فذكر في خاتمة السورة وعيد القائلين بالشركاء ولأنداد فقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى} أي بحسب زعمكم واعتقادكم {قَالُواْ آذناك} قال ابن عباس أسمعناك كقوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] بمعنى سمعت، وقال الكلبي أعلمناك وهذا بعيد، لأن أهل القيامة يعلمون الله ويعلمون أنه يعلم الأشياء علماً واجباً، فالإعلام في حقه محال.
ثم قال: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} وفيه وجوه:
الأول: ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً، فالمقصود أنهم في ذلك اليوم يتبرءون من إثبات الشريك لله تعالى الثاني: ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ الثالث: أن قوله: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} كلام الأصنام فإن الله يحييها، ثم إنها تقول ما منا من أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى أنها لا تنفعهم فكأنهم ضلوا عنهم.
ثم قال: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} وهذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول إن الكفار ظنوا أولاً ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب، ومنهم من قال إنهم ظنوا أولاً أنه لا محيص لهم عن النار ثم أيقنوا ذلك بعده، وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم، ولما بيّن الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرءوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متبدل الأحوال متغير المنهج، فإن أحس بخير وقدرة انتفخ وتعظم وإن أحسّ ببلاء ومحنة ذبل، كما قيل في المثل: إن هذا كالقرلى، إن رأى خيراً تدلى، وإن رأى شراً تولى، فقال: {لاَّ يَسْأمُ الإنسان مِن دُعَاء الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} يعني أنه في حال الإقبال ومجيء المرادات لا ينتهي قط إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ويطمع بالفوز بها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيساً قانطاً، فالانتقال من ذلك الرجاء الذي لا آخر له إلى هذا اليأس الكلي يدل على كونه مبتدل الصفة متغير الحال وفي قوله: {يئوس قنوط} مبالغة من وجهين:
أحدهما: من طريق بناء فعول والثاني: من طريق التكرير واليأس من صفة القلب، والقنوط أن يظهر آثار ليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.
ثم بيّن تعالى أن هذا الذي صار آيساً قانطاً لو عاودته النعمة والدولة، وهو المراد من قوله: {وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} فإن هذا الرجل يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة والمذاهب الباطلة الموجبة للكفر والبعد عن الله تعالى فأولها أنه لابد وأن يقول هذا لي وفيه وجهان الأول: معناه أن هذا حقي وصل إلي، لأني استوجبته بما حصل عندي من أنواع الفضائل وأعمال البر والقربة من الله ولا يعلم المسكين أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً، وذلك لأنه إن كان ذلك الشخص عارياً عن الفضائل، فهذا الكلام ظاهر الفساد وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة، فهي بأسرها إنما حصلت له بفضل الله وإحسانه، وإذ تفضل الله بشيء على بعض عبيده، امتنع أن يصير تفضله عليه بتلك العطية سبباً لأن يستحق على الله شيئاً آخر، فثبت بهذا فساد قوله إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي والوجه الثاني: أن هذا لي أي لا يزول عني ويبقى علي وعلى أولادي وذريتي.
والنوع الثاني: من كلماتهم الفاسدة أن يقول: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} يعني أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة، فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا يقول إنها لي وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً}.
والنوع الثالث: من كلماتهم الفاسدة أن يقول {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى رَبّي إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} يعني أن الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل، وبتقدير أن يكون حقاً فإن لي عنده للحسنى، وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه:
الأول: أن كلمة إن تفيد التأكيد.
الثاني: أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث: قوله: {عِندَهُ} يدل على أن تلك الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير، فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده، فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع: اللام في قوله: {للحسنى} تفيد التأكيد الخامس: للحسنى يفيد الكمال في الحسنى.
ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال: {فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي نظهر لهم أن الأمر على ضد ما اعتقدوه وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في مقابلة قولهم: {إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى}.
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار له الطول أيضاً كما استعير الغلظ لشدة العذاب.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة، ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم، وبين أن الإنسان جبل على التبدل، فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم، وإن أحسّ بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبة كلاماً آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد، وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وتقرير هذا الكلام أنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً علماً بديهياً، وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهياً، فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وأن يكون فاسداً بتقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب، فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركوا هذه الثغرة، وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه، وإن دل على فساده تركتموه، فأما قبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل، وقوله: {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} موضوع موضع منكم بياناً بحالهم وصفاتهم، ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة، وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها، وفي تفسير قوله: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ} قولان الأول: أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة، وقد أكثر الله منها في القرآن، وقوله: {وَفِي أَنفُسِهِمْ} المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزّه عن المثل والضد، فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ} يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه، قلنا إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً، ومثاله كل أحد رأى بعينه بنية الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفاً على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ} والقول الثاني: أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجّحوه على القول الأول لأجل أن قوله: {سَنُرِيهِمْ} يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله: {سَنُرِيهِمْ} لائق بالوجه الأول كما قررناه، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صلى الله عليه وسلم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة، ثم استولى على مكة، إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم، وذلك لا يدل على كونهم محقين، ولهذا السبب قلنا إن حمل الآية على الوجه الأول أولى، ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه، قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلم على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقاً لخبره، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً.
ثم قال: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ} وقوله: {بِرَبّكَ} في موضع الرفع على أنه فاعل {يَكُفَّ} و{أنه على كل شيء شهيد} بدل منه، وتقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها، وقد اسقضينا ذلك في تفسير قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} [الأنعام: 19] والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة.
ثم ختم السورة بقوله: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ} أي إن القوم في شك عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة، وقرئ {فِى مِرْيَةٍ} بالضم.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ} أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن خيراً فخير، وإن شراً فشر فإن قيل قوله: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ} يقتضي أن تكون علومه متناهية، قلنا قوله: {بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ} يقتضي أن يكون علمه محيطاً بكل شيء من الأشياء فهذا يقتضي كون كل واحد منها متناهياً، لا كون مجموعها متناهياً، والله أعلم بالصواب.
تم تفسير هذه السورة وقت ظهر الرابع من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة والحمد لله رب العالمين وصلاته على خاتم النبيين محمد وآله وصحبه وسلم.

1 | 2 | 3 | 4